البحث عن التعليم أو عن الشريعة في الغرب
يجهل كثير من الدارسين والمثقفين بعد انبهارهم بقوانين الغرب، المأخوذة أصلاً من الشريعة الإسلامية، او مستنبطة من شرائع عدد من عصور الخلافة الإسلامية، بحسب الكاتب الدكتور "عبد القادر توران".
كتب الدكتور "عبد القادر توران"، جهل أو قصور الدارسين والمثقفين والمسؤولين عن دراسة التاريخ الإسلامي وقوانينه ومقارنته بالشرائع في الدول الغربية، واقتصارهم بالانبهار مما يرونه لدى الغرب.
في إطار قوانين الاتحاد الأوروبي كان من التعديلات المطلوبة من تُركيا إنشاء منصب "الرقابة العامة" أو ما يُدعى باللغة السويدية "Ombudsman"، أي حَكَم تعيّنه الدولة بين المسؤولين والمواطنين، ويحق للمواطن الذي يعتقد أنه تعرض لظلم أن يتقدم بطلب إلى ذلك الحَكَم المسمى بــ "آمبودزمان".
أصرت تُركيا كثيراً على عدم إنشاء هذه المؤسسة، لأنها لم تكن موجودة أو فعّالة في النظام الجمهوري الفرنسي في القرن التاسع عشر، الذي تأسست عليه جذور الجمهورية، وربما لأن الإداريين الكماليين حينها رأوا أن لجوء مواطن إلى حَكَم معين من الدولة ضد الدولة هو تجاوز للحدود.
وجدت هذه المؤسسة في التاريخ الغربي لأول مرة في دستور السويد سنة 1809. فعندما كانت قوانين الاندماج مع الاتحاد الأوروبي توضع، ذهب وزير العدل التُركي حينها إلى السويد والتقى بوزير العدل السويدي وسأله عن هذه المؤسسة وعملها.
أجابه وزير العدل السويدي: " أنت تسألنا؟ منكم أخذنا ذلك. فعندما هزم الروس ملكنا چارلز سنة 1709 لجأ إلى الدولة العثمانية وأقام عندكم خمس سنوات، وخلال تلك السنوات أثار نظام العدالة العثماني انتباهه. فاقتبس منكم هذه المؤسسة ونقلها إلينا"!
صُدم الوزير بمجرد أن سمع ذلك من الغرب، وشعر بحرج شديد، لأنه هو في الأصل أستاذ بروفيسور في الحقوق، وقام بتدريس نظام الآمبودزمان في الجامعات، معتقداً دائماً أنه مؤسسة جاءت من الغرب، فلم يكن لديه أي فكرة عن تاريخها في العصر العثماني، فقال متأسفاً: "وكيف يمكن أن لا أعرف؟". لكن كيف له أن يعرف ذلك في هذا النظام التعليمي؟.
ظن الوزير أنه صحح معلوماته، لكنه أخطأ مرة أخرى، فهو قد نشأ بعقلية البحث عن المعرفة في الغرب فقط، لا العدالة وحقوق الإنسان، وهو تعرض للخداع والتضليل بتشكيل وعيه من خلال هذا النظام التعليمي، بل -إذا جاز التعبير- إنه يبحث عن الشريعة في الغرب!.
فهو يتلقى ما يعلمه له الغرب، دون أن يتجاوز اهتمامه بغير ذلك أبداً.
أما حقيقة الأمر، فإن أصل هذه المؤسسة هو عمل النبي ﷺ، فكان الرسول ﷺ يجلس في المسجد ويستمع إلى شكايات الناس، ثم جاء عمر ؓ وطبع هذه المجالس بطابع مؤسساتي يشكل جوهر محاكم "ديوان المظالم"، فكان الخلفاء والولاة عادةً يجلسون يومين من الأسبوع في المسجد ويستمعون لشكايات الناس ضد المسؤولين، فيجرون المحاكمة ويصدرون القرار، ويسترد المظلوم حقه.
ثم قام نور الدين محمود زنگى ؒ بحركة إحياء ونهضة مستمدة من أفكار الغزالي ؒ، وعين لمحاكم ديوان المظالم مكاناً، فأنشأ دار العدل، وتابع صلاح الدين الأيوبي ؒ ذلك ورسخ عملها المؤسساتي أكثر في العالم الإسلامي.
وورث العثمانيون ذلك، حتى تشكل ذلك الديوان العثماني المشهور [الذي رآه ملك السويد] بتحول تلك محاكم المظالم إلى مجلس شورى الدولة بمرور الوقت.
شوهدت هذه المؤسسة في السويد في القرن التاسع عشر، لكنها لم تعمل فعلياً حتى تخلص الغرب من الحرب العالمية الثانية، لكنها كانت منذ اليوم الأول عند المسلمين، منذ خمسة عشر قرناً!
الرجل هو وزير عدل، وأستاذ خبير، فقد درّس نظام الآمبودزمان في الجامعات لسنوات، ويعلم الحقوق والعدالة، لكن لا علم عنده بالحقوق في الفترة العثمانية، عدا عن الحقوق في العصور الأولى للإسلام، فعقله منغلق وقاصر عنها.
وليس هذا حال التعليم الرسمي فقط، بل غير الرسمي أيضاً، بل لا تظنوا أن ذلك حال الكماليين وحدهم، بل إن قسماً كبيراً من العالم الفكري والأكاديمي القومي والمحافظ في تُركيا هو قومي ومحافظ بالاسم فقط، هم في حقيقتهم مأسورون بالغرب ومهووسون، ولا علم لهم بتاريخ الإسلام.
وأيضاً، فأغلب أساتذة الإلـٰهيات وعلوم الدين لم يقرؤوا التاريخ الإسلامي قراءة صحيحة وسليمة، بل كانت قراءاتهم الأولى لتاريخ الإسلام من مستشرقين معادين للإسلام، وبهذا تشكلت أذهانهم.
تاريخنا تمزق مع عصر التنظيمات، وتقطع تماماً مع عهد الجمهورية، ومن لا يستطيع تجاوز الأفكار والمناهج الرسمية أو يخشى تجاوزها، لن يمكنه استيعاب غير ذلك؛ لأن عقولهم تعمل بقدر ما يُسمح لهم. (İLKHA)