أولويات الحركة الإسلامية 3... فقه الموازنات
د. يوسف القرضاوي
فقه الموازنات
تحدثت في مناسبات سابقة عن أنوع الفقه الذي ننشده أو بعضها. من ذلك ما ذكرته في كتابي (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف) عن فقه السنن، وفقه مراتب الأعمال.
ومنها: ما ذكرته في مقدمه كتابي الأخير عن (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم). وموضوعه أحد أنوع الفقه الأساسية المنشودة، وهو فقه الاختلاف.
وذكرت هناك أن أنوع الفقه المطلوبة خمسة.
والذي أركز عليه هنا من هذه الأنواع اثنان، هما:
1. فقه الموازنات
2. فقه الأولويات
وينبغي أن نقف قليلاً عند كل منهما.
فقه الموازنات: أما (فقه الموازنات) فنعني به جملة أمور:
الموازنة بين المصالح بعضها وبعض، من حيث حجمها وسعتها، ومن حيث عمقها وتأثيرها، ومن حيث بقاؤها ودوامها وأيها ينبغي أن يقدم ويعتبر، وأيها ينبغي أن يسقط ويلغى
الموازنة بين المفاسد بعضها وبعض، من تلك الحيثيات التي ذكرناها في شأن المصالح، وأيها يجب تقديمه، وأيها يجب تأخيره أو إسقاطه.
الموازنة بين المصالح والمفاسد، إذا تعارضتا، بحيث نعرف متى نقدم درء المفسدة على جلب المصلحة، ومتى تغتفر المفسدة من أجل المصلحة.
حاجتنا إلى فقه الشرع وفقه الواقع: ونحن في هذا المقام نحتاج إلى مستويين من الفقه:
أولهما: فقه شرعي يقوم على فهم عميق لنصوص الشرع ومقاصده، حتى يسلم بصحة (مبدأ الموازنات) المذكور، ويعرف الأدلة عليه وهي واضحة لمن استقرأ الأحكام والنصوص وغاص في أسرار الشريعة. فما جاء الشرع إلا لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، برتبها المعروفة: الضرورية والحاجيّة والتحسينيّة.
والآخر: فقه واقعي، مبني على دراسة الواقع المعيش دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع، معتمدة على أصح المعلومات وأدق البيانات والإحصاءات، مع التحذير هنا من تضليل الأرقام غير الحقيقية المستندة إلى المنشورات الدعائية، والمعلومات الناقصة والبيانات غير المستوفية، والاستبيانات والأسئلة الموجهة لخدمة هدف جزئي معين لا لخدمة الحقيقة الكلية.
ضرورة تكامل الفقهين للوصول إلى نتائج سليمة
ولا بد أن يتكامل فقه الشرع، وفقه الواقع، حتى يمكن الوصول إلى الموازنة العلمية السليمة البعيدة عن الغلو والتفريط.
والجانب الشرعي هنا واضح من الناحية المبدئية؛ فقد تحدثت عنه كتب أصول الفقه من المستصفى إلى الموافقات، وكتب القواعد والأشباه والفروق.
إن المصالح إذا تعارضت فوَتت المصلحة الدنيا في سبيل المصلحة العليا، وضحي بالمصلحة الخاصة من أجل المصلحة العامة، ويعوض صاحب المصلحة الخاصة عما ضاع من مصالحه، أو ما نزل به من ضرر، وألغيت المصلحة الطارئة لتحصيل المصلحة الدائمة أو الطويلة المدى، وأهملت المصلحة الشكلية لتحقيق المصلحة الجوهرية، وغلبت المصلحة المتيقنة على المظنونة والموهومة.
وفي صلح الحديبية رأينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يغلب المصالح الحقيقية والأساسية والمستقبلية على بعض الاعتبارات التي يتمسك بها بعض الناس، فقبل من الشروط ما قد يظن لأول وهلة أن فيه إجحافاً بالجماعة المسلمة، أو رضا بالدون، ورضي أن تحذف البسملة المعهودة، ويكتب بدلها (باسمك اللهم) وأن يمحى وصف الرسالة من عقد الصلح، ويكتفى باسم محمد بن عبد الله. والأمثلة كثيرة، والمجال ذو سعة.
وإذا تعارضت المفاسد والمضار ولم يكن بد من بعضها، فمن المقرر أن يرتكب أخف المفسدتين، وأهون الضررين. هكذا قرر الفقهاء: أن الضرر يزال بقدر الإمكان، وأن الضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه، وأنه يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. ولهذا أمثلة وتطبيقات كثيرة ذكرتها كتب (القواعد الفقهية) أو (الأشباه والنظائر).
وإذا تعارضت المصالح والمفاسد، أو المنافع والمضار؛ فالمقرر أن ينظر إلى حجم كل من المصلحة والمفسدة، وأثرها ومداه، فتغتفر المفسدة اليسيرة لجلب المصلحة الكبيرة. وتغتفر المفسدة المؤقتة لجلب المصلحة الدائمة والطويلة المدى. وتقبل المفسدة وإن كبرت إذا كانت إزالتها تؤدي إلى ما هو أكبر منها. وفي الحالات المعتادة: يقدم درء المفسدة على جلب المصلحة. وليس المهم أن نسلم بهذا الفقه نظرياً، بل المهم كل المهم أن نمارسه عمليا. فكثير من مسببات الخلاف بين الفصائل العاملة للإسلام، يرجع إلى هذه الموازنات.
-هل يقبل التحالف مع قوى غير إسلامية؟
-هل تقبل مصالحة أو مهادنة مع حكومات غير ملتزمة بالإسلام؟
-هل تمكن المشاركة في حكم ليس إسلامياً خالصا؟ وفي ظل دستور فيه ثغرات أو مواد لا نرضى عنها تمام الرضا؟
-هل ندخل في جبهة معارضة مكونة من بعض الأحزاب لإسقاط نظام طاغوتي فاجر؟
-هل نقيم مؤسسات اقتصادية إسلامية مع سيطرة الاقتصاد الوضعي الربوي؟
-هل نجيز للعناصر المسلمة العمل في البنوك والمؤسسات الربويّة أم نفرغها من كل عنصر متدين ملتزم؟
صعوبة الممارسة والتطبيق في الحياة العملية:
إن تقرير المبدأ سهل، ولكن ممارسته صعبة، لأن فقه الموازنات يصعب على العوام وأمثالهم من القادرين على التشويش لأدنى سبب. لقد لقي العلامة المودودي وجماعته عنتاً كثيرا حينما رأى - في ضوء فقه الموازنات - أن انتخاب فاطمة جناح أقل ضرراً من انتخاب أيوب خان، فشنت الغارة عليهم بحديث "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". وهل يفلح قوم ولوا أمرهم طاغية متجبراً؟ لن يفلحوا، والفقه هنا ينظر: أي الشرين أهون، أو أي المفسدتين أخف، فيرتكب الأدنى في سبيل الأعلى.
والدكتور/ حسن الترابي وإخوانه في السودان لقوا هجوما من بعض الإسلاميين لقرارهم دخول الاتحاد الاشتراكي في عهد النميري، وقبولهم بعض المناصب الرسمية في عهده، حتى قبل إعلانه تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. والإخوة في سوريا عانوا مثل ذلك، حين قرروا التحالف مع بعض القوى غير الإسلامية لمقاومة النظام الذي يريد أن يستأصل شأفتهم، وقد تحالف الرسول مع خزاعة وهم على الشرك، واستعان ببعض المشركين على بعض. وأنا لا أنتصر هنا لموقف هؤلاء ولا أولئك، ولكن أنتصر للمبدأ، مبدأ فقه الموازنات الذي على أساسه يقوم بنيان (السياسة الشرعية). وفي مواقف الرسول الكريم وأصحابه، وأدلة الشرع الفسيح ما يؤيد هذا كله من جواز الاشتراك في حكم غير إسلامي وجواز التحالف مع قوى غير إسلامية.
أدلة من القرآن على فقه الموازنات:
والمتدبر للقرآن الكريم مكية، ومدنية، يجد فيه أدلة كثيرة على فقه الموازنات والترجيح. نجد في الموازنة بين المصالح قوله تعالى على لسان هارون لأخيه موسى عليهما السلام: (يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) (سورة طه: 94). وفي الموازنة بين المفاسد والأضرار نجد قوله تعالى على لسان الخضر في تعليل خرق السفينة: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً) (سورة الكهف: 79).
فلأن تبقى السفينة لأصحابها وبها خرق أهون من أن تضيع كلها، فحفظ البعض أولى من تضييع الكل. ومن أبلغ ما جاء في الموازنات قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير، وصد عن سبيل الله، وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل) (سورة البقرة :217).
فقد أقر بأن القتال في الشهر الحرام كبير، ولكن لمقاومة ما هو أكبر منه، وفي الموازنة بين المصالح المعنوية والمادية نقرأ قوله تعالى عتابًا للمسلمين عقب غزوة بدر:( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم) (الأنفال:67) وفي الموازنة بين المصالح والمفاسد نقرأ قوله تعالى :( يسألونك عن الخمر والميسر، قل: فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما). (البقرة: 219). وفي الموازنة بين الجماعات والقوى غير المسلمة بعضها وبعض، نقرأ أوائل سورة الروم وفيها انتصار للروم على الفرس وكلا الفريقين غير مسلم لأن الروم أهل كتاب، فهم أقرب إلى المسلمين من المجوس عباد النار.
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية:
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام قوي في جواز تولي بعض الولايات في دولة ظالمة، إذا كان المتولي سيعمل على بعض الظلم، أو تقليل حجم الشر والفساد. وله في موطن آخر فصل جامع في تعارض الحسنات أو السيئات، أو هما جميعا، إذا اجتمعا ولم يمكن التفريق بينهما، بل الممكن إما فعلهما جميعا وأما تركهما جميعا لقد أفتت بعض الندوات المتخصصة في الاقتصاد الإسلامي التي جمعت بين عدد من أهل الفقه وآخر من هل الاقتصاد بشرعية الاشتراك في المؤسسات والشركات التي تنشر في البلاد الإسلامية، وتعرض أسهمها على الجمهور ويكون أصل عملها مباحاً، ولكن قد يشوبه بعض التعامل بالفوائد الربويّة فرئي -في ضوء فقه الموازنات- ألا تترك هذه الشركات المهمة والمؤثرة في الحياة لغير المسلمين، أو للمسلمين غير المتدينين، وفي هذا خطر كبير، وخصوصاً في بعض الأقطار، ويمكن للمساهم أن يخرج من أرباحه نسبة تقريبية يتصدق بها في مقابل الفوائد التي شابت ربحه. وفي ضوء هذا أفتى أنتي الشباب المسلم الملتزم ألا يدع عمله في البنوك وشركات التأمين ونحوها، وإن كان في بقائه فيها بعض الإثم، لما وراء ذلك من استفادته خبرة يجب أن ينوي توظيفها في خدمة الاقتصاد الإسلامي، مع إنكاره للمنكر ولو بقلبه، وسعيه مع الساعين لتغيير الأوضاع كلها إلى أوضاع إسلامية.
إذا غاب فقه الموازنات عن الساحة:
إذا غاب عنا فقه الموازنات سددنا على أنفسنا كثيراً من أبواب السَّعة والرحمة، واتخذنا فلسفة الرفض أساسا لكل تعامل، والانغلاق على الذات تكأة للفرار من مواجهة المشكلات، والاقتحام على الخصم في عقر داره. سيكون أسهل شيء علينا أن نقول: «لا» أو: حرام في كل أمر يحتاج إلى إعمال فكر وإجهاد.
أما في ضوء فقه الموازنات فسنجد هناك سبيلاً للمقارنة بين وضع ووضع، والمفابلة بين حال وحال، والموازنة بين المكاسب والخسائر، على المدى القصير، وعلى المدى الطويل، وعلى المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي، ونختار بعد ذلك ما نراه أدنى لجلب المصلحة، ودرء المفسدة.
دعيت مرة إلى الكتابة في مجلة (الدوحة) القطرية، وكانت مجلة أدبية ثقافية عامة، وأغلب من يشرف عليها علمانيون، والطابع الغالب عليها إن لم يكن مجافياً للإسلام فليس موالياً له، ولا مدافعاً عنه. وترددت في الاستجابة طويلاً، ثم رأيت بعد الموازنة أن كتابتي فيها أجدى وأنفع من مقاطعتي لها؛ فإن قراءها يمثلون قاعدة عريضة من المثقفين، وجلهم ممن لا يقرءون المجلات الإسلامية؛ فهم غير قراه مجلة (الأمة) وأمثالها، ولا بد لنا أن نوصل كلمتنا إلى هؤلاء، أداء الواجب البلاغ إذا أتيحت لنا الفرصة.
وهذا ما يجعلنا نقبل الحوار مع مندوبي بعض الصحف والمجلات التي قد لا نتفق معها في خطها كثيراً أو قليلا.
ولا يزال بعض الأخوة ينكرون على من يكتب في الصحف اليومية التي لا تلتزم بالخط الإسلامي الصريح، حتى إن بعضهم نكر عليّ نشري لكتابي (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) على حلقات في صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية، لما لها من مواقف قد لا يرضون عنها، مع أني لمست جدوى هذا النشر في جمهور كبير من الناس. بل هناك من يرى مقاطعة أجهزة الإعلام كلها: مقروءة ومسموعة ومرئية، لما يشوبها من انحراف وفساد في الفكر والسلوك، ناسين ما لها من خطر بالغ على العقول والضمائر، وإن تركها لا يزيدها إلا فسادا وخبالاً، وسيمكن العلمانيين والمنحلين من التغلغل فيها، والتخريب لها، وسيحرمنا نحن من فرص لا نجد لها عوضاً.
ومن نظر إلى الأمر في ضوء فقه الموازنات وجد أن الدخول في هذه الميادين الهامة ليس مشروعا فحسب بل هو مستحب، بل واجب، لأنه وسيلة إلى أداء أمانة الدعوة ومقاومة الباطل والمنكر بقدر المستطاع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ء كما هو مقرر ومعلوم.
(منقول بتصرف من كتاب – أولويات الحركة الإسلامية – للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي)
(İLKHA)