دأب أعداء الأمة على زرع الفتنة والشقاق بين أبناءها، في محاولة لتفريقها وتمزيق نسيجها المكون من عدد من القوميات مع انتشار الإسلام في أصقاع الأرض.
ويرى الباحث الدكتور عبدالقادر توران أنه مثلما سمى المغول تراجع المجتمعات عن مقاومتهم "بالتعقل والحكمة"، سمى الغربيون قبول
الشعوب بغزوهم ثقافياً "بالتنوير والثقافة".
وفي الحقيقة فإنه لا يوجد فرق جوهري بين "التعقل" بمواجهة
المغول و "التنوير" في مواجهة الغرب، فكلاهما يعني خضوع المجتمعات بلا قوة لأجل الحفاظ على حياتها وتقليل اضطهادها.
وقد سطرت أقلام "المتنورين والمثقفين" في ذلك العصر اتهاماتهم لضحايا الغزو المغولي نيابة عن المغول الذين خضعوا لهم، فكان من المعقول حسب منطقهم اتّهام الضحايا أن "عدم تصرفهم بعقلانية" و"عدم خضوعهم" قد تسببوا بقتل أنفسهم.
كذلك يلوم القوميون الأكراد الاشتراكيون الشعب الكُردي على المأساة التي يعيشها الأكراد بسبب التغريب والغرب، فبالنسبة لهذه العقول "المتعلمة"، فإن الأكراد بسبب "غياب عقولهم"؛ لم يعرفوا الخضوع للغرب، وبتعبير آخر "لم ينجحوا بالدخول لقلوب الغربيين".
ومن الضروري اليوم "التعقل"، أي إيجاد أي سبيل للفوز بتقدير الغربيين، وهذا الرأي وصل لحد رومانسي، حتى جعلت الحماقة الاشتراكية بعض القوميين الأكراد ممن يعد نفسه محافظاً يربط بين أي انتقاد للغرب والغربيين بتهمة "العداء للمصالح الكُردية"، فيعلنون كل من ينتقد الغرب أو الغربيين أنه بلا شك "عدو للكُرد".
لكنهم يتناسون: أن مثلما صنف المغول الناس إلى مفيدين لهم، وعديمي الفائدة والضرر، والأعداء المضرين بمصالحهم؛ كذلك تماماً فعل الغربيون أثناء غزوهم، فباستخدام منهج دارويني صنفوا الناس حسب قوتهم.
باختصار؛ فالناس إما أقوياء يُستفاد منهم، أو ضعفاء يتم تقديمهم رشوةً/طعماً للأقوياء.
من هذا التصنيف تم ترجيح التُرك والعرب والفرس على الكُرد بسبب أعداد نفوسهم ونطاق نفوذهم، وألقي بالأكراد بين يدي الدول القومية المرتبطة بالغرب في السياسة العامة.
إذ أن سياسات الدول القومية ليست مستقلة بتاتاًعن الغرب، فالقضية لم تكن بسبب تشتت الأكراد أو "غياب العقل" الكُردي لحد لا
يعرفون معه كيف يخضعون، بل صودف أن الأكراد هم الحلقة الأضعف حسب نفوسهم ونفوذهم.
ولنفكر من جهة أخرى: هل كان الكُرد أكثر تشتتاً وفوضى من القبائل العربية على جانب ساحل الخليج أو العرب شرق البحر المتوسط في بداية القرن العشرين؟ بالعكس تماماً، ففي ذلك العصر وُجدت وحدة
كُردية قوية ولو أنها إقليمية، ولو مُنح لأي پاشا أو بك كُردي عشر الدعم الممنوح لأمراء العرب لوُجد تشكيل سياسي مختلف تماماً، لكن الغربيون لم يرفضوا تقديم مثل هذا الدعم فحسب، بل، على سبيل المثال، رفضت فرنسا أثناء استعمارها لسورية حتى أن تأذن بالتعليم باللغة الكُردية ولو في صفوف رياض الأطفال.
هذا قرار مشترك تم اتخاذه في أقبية الغرب، فبجانب الإنگليز والفرنسيين كان الروس أيضاً مقيدين بهذا القرار، وفي حين سمح الاتحاد السوفيتي لشعوب صغيرة من بضعة آلاف أن يشكلوا دولهم، سحب ستالين هذا القرار من الكُرد ونفاهم لإفنائهم.
والإنگليز الذين منحوا الاستقلال لجزر عبارة عن أعداد قليلة من الناس المستعبدين بالكامل، تحركوا للقضاء على الشيخ محمود البرزنجي.
وفرنسا التي وحدت بالقوة والإجبار جماعات مختلفة في أديانها وطوائفها في لبنان، سعت لإقصاء الكُرد السوريين الذي كانوا يعيشون في وحدة ونكلت بهم بأشد صنوف التعذيب بالدنيا، حتى دفنتهم وهم على قيد
الحياة.
من مجد الإسلام إلى السياسة الداروينية
شهد الأكراد أقوى عصور الإسلام، وبرزوا بدورهم عنصراً فعالاً ومتحداً في مركز النظام الإسلامي، وربما بسبب ذلك قلما تضرروا من النزاعات الداخلية، فطوال الفترة الإسلامية كان الأكراد دائماً ضمن الرابحين المستفيدين، بغض النظر عمن يتولى الإدارة والحكم.
فبجانب أنهم أداروا مناطقهم، ونالوا الاحترام والمناصب في مراكز الدول الكبرى، يظهر ذلك في توليهم مناصب عالية في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
هكذا كانت الأوضاع في الفترة الإسلامية، أما مع التغريب، واجه الأكراد التحقير والإبعاد والتجاهل، فقد أغلق الغرب أبوابه في وجه الأكراد في أوج قوته، بل كشف وفضح طلبات الأكراد لإجراء مقابلة معهم، فجعلهم بذلك مستهدفين.
إذ سعى الغرب أن يثبت للدول القومية بوصفه سيداً لها كم أنه "صادق ومخلص" لهم من خلال استبعاده وإقصائه للأكراد، وبسياسته القائمة على نظرية القوة الداروينية اختار أن يضحي بالأكراد وأن يلقي بهم بين يدي الدول القومية لأجل سياساته.
وبدون رؤية منطق القوة الدارويني وراء السياسة الغربية وانعكاسه عليها لا يمكن تطوير السياسات المتعلقة مباشرةً بحاضر الأكراد، ورؤية هذه القضايا مع عكس تجارب الأكراد سيؤدي بالأكراد إلى الانقراض بدعوى الحرية.
واليوم مع سير الغرب على طريق الضعف يوماً بعد يوم، وأثناء هذا الضعف تسعى الكيانات الاشتراكية لإقامة اتصال مع الغرب في عملية سياسية، لا لأجل كسب انتباه الغرب فحسب، بل لأجل الاستسلام الكامل للغرب.
فلأجل نيل القبول من الغرب، ينتهج الاشتراكيون سياسة الدوس على
كل القيم والمفاهيم، ويسمون ذلك "إعادة خلق الهوية الكُردية".
فبالنسبة لعقولهم: ستالين سعى للقضاء على الكُرد، فلو كنا ستالينيين لنجونا، مصطفى كمال حرم الكُرد من حقوقهم، فلو سلكنا سبيل مصطفى
كمال لتحررنا.
وبغض النظر عن التفاصيل، إلا أن الحرص على الاستسلام للغرب سيكون خطراً بالنسبة للأكراد.
نوضح ذلك بمثال بسيط: لا يمكن إنكار أن التغريب، خصوصاً تغريب ما بعد الحداثة، يفرض مشكلة انخفاض عدد الكُرد بشكل واضح، وبدأ الأكراد يلاحظون آثاره بوضوح في المناطق التي يعيشون فيها مع غيرهم من المجتمعات، فهل من مصلحة مجتمع مثل الأكراد صار عدد نفوسه محدوداً ومعرضاً للصهر والاستيعاب أن يحمل لواء سياسات الغرب الأسرية والجنسانية في هذا الحال؟.
ربما كلماتي لن تُفهم اليوم، أو تكون مجرد عبث زائل بالنسبة لمن أَسرتهم الرومانسية، لكن كتابة ذلك مسـؤلية تاريخية، ولن أتهرب من هذه المسؤلية.
عقلية اللاقيم
حتى وقت قريب تم دمج وتركيب روايات المستشرقين مع آراء الباحثين الشرقيين في تُركيا لإيجاد دعاية مضللة مفادها؛ أنه لا يوجد مكان أو دور للأكراد في التاريخ الإسلامي، وعندما نطلع على الوثائق التاريخية ونعرضها على الجمهور يخترعون دعاية جديدة: نعم، الأكراد كانت لهم مكانة مهمة في التاريخ الإسلامي، لكن العالم اليوم تغير، وعلى الأكراد أن يقطعوا علاقاتهم وروابطهم مع الإسلام ليستردوا قوتهم ويجدوا محلاً لهم في العالم الجديد.
ورغم هاتين الدعايتين نتساءل؛ ماذا قدم الغرب للأكراد وماذا أخذ منهم في اليوم والأمس؟.
وإذا كنا واقعيين نجد أن الإسلام زاد من شأن الأكراد، بينما قلل الغرب من شأنهم.
فقد وسع الإسلام من نفوذ الأكراد، أما الغرب ضيّق عليهم، ومع هذا الواقع، فإن الغرب ما زال يطلب المزيد منهم.
إن الغرب يطلب من الأكراد أن ينهجوا "سياسة اللاقيم"، وبتعبير أدق يطلب منهم "سياسة معاداة القيم" الناتجة من "علمانية ما بعد الحداثة" المفروضة على المجتمعات، بل حتى على الأفراد بجانب دول العالم
الإسلامي.
فبالأمس فرض الغرب على الدول أن تصير علمانية، واليوم يفرض على المجتمعات أن تكون علمانية، فصارت المجتمعات مطالبة بالتعريف عن ذاتها بمعزل عن دينها وقيمها.
والجماعات الاشتراكية لم تكتف بقبول ذلك، بل قدمت نفسها بوصفها "عقلاً كُردياً جديداً" لتكون محاربة مدافعة عن العلمانية السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي، وبتعبير آخر، فباسم العقلية الكُردية الجديدة لا يكتفون بالطلب من الأكراد اعتناق العلمانية السياسية والاجتماعية فحسب، بل أن يكونوا محاربين عنها، ويقدموا أرواحهم لها، أي أنهم حولوا الأكراد لمحاربين مرتزقة للعلمانية في العالم الإسلامي.
حسناً، لكن، في مقابل كل ذلك، ماذا قدم الغرب للأكراد؟ لا شيء مهم! ماذا سيقدمون؟ أيضاً لا شيء واضح! فلا يوجد أي تعهد أو اتفاق حول ذلك.
وطبيعة السياسة أنها تجري نيابةً عن المجتمع، وهذا يعني أن قيم المجتمع لها الأولوية والأهمية.
لأن المجتمعات تعيش بقيمها وخصوصاً المجتمعات التي سلبت حقوقها السياسية، فالأكراد عاشوا وفقاً لقيمهم رغم فقدانهم حقوقهم السياسية، وما دام ذلك هو الواقع، فكيف تكون عقلية تجريد الأكراد من قيمهم، بل جعلهم أعداء لقيمهم؟.
ومثلما سُميت ذات يوم الألفباء الغربية "بالألفباء التُركية"، هناك مع الأسف اتجاه لتسمية هذه العقلية العالمية المفروضة على الأكراد "بالعقلية الكُردية الجديدة".
فعقلية معادية لكل القيم... أولاً هي عقلية دخيلة وليست أصيلة، وثانياً لا يمكن لأي مجتمع أن يقبل مثل هذه العقلية، لأن هذه العقلية مجردة عن قيم البنية البشرية العالمية، وهي عبارة عن نزعة وضيعة تظهر بين حين وآخر، وتتراجع عند مواجهة ردة الفعل الإنسانية.
مع الإسلام ترقى الكُرد لاعتبارهم مجتمعاً منقذاً (بالتعبير الغربي "مخلصاً")، فتحرير صلاح الدين الأيوبي للقدس منحهم رمزية دور المنقذ، أيضاً كان الأكراد طوال تاريخ الإسلام بموقع المنقذ المعنوي (شيخ/مرشد/عالم).
فكثير من المرشدين والعلماء في العالم الإسلامي هم من الكُرد أو نشـؤا بين الأكراد، وأي مرشد أو عالم في مكان في العالم الإسلامي لا بد أن يجد شخصية كُردية في سلسلة إجازته وأسانيده.
نجد أمثلة مثبتة من "شاه ولي الله الدهلوي" بالهند إلى السيد "عبد القادر الجزائري"، ومن الشيخ "شامل الداغستاني القفقاسي" إلى علماء فلسطين والحجاز ...، فكثيراً ما كان الأكراد في قلب قضية استنقاذ الإسلام وتخليصه، وحسب أحد الآراء فالإمام "حسن البنا" أيضاً كُردي، وقد سألت أحد قادة الإخوان عن ذلك، ففال: "إنه لا ينفي ذلك".
لكن معلوم أن الإمام البنا تلقى العلم من تلاميذ الشيخ محمد أمين الكُردي، وأيضاً، حتى وقت قريب في تُركيا، تم إخفاء السيرة الذاتية لـ"نجم الدين أرباقان" وأنه من سلالة إمارة بكوات قوزان الذين لا شك في كُرديتهم، فقط لإخفاء أصله الكُردي.
فهل يمكن القبول "بعقلية" تعزل الأكراد عن دورهم المنقذ وتحولهم إلى مجرد أدوات لسياسة اللاقيم النيوليبرالية التي تفترس الناس وفق رغبتها؟
وبقي الإسلام مصدراً لتغذية وإمداد ا لكُرد حتى خلال فترة العلمانية.
فأسماء قامات علمية معترف بها عالمياً مثل "فؤاد سزگين"، "غازي ياشارگيل"، "نادر نادروۋ" و"عزيز سنجار"، نشأت مع الثقافة الكُردية هي استمرار لميراث الإسلام، فمع الانتقال من عهد الإسلام إلى فترة العلمانية نشأ جيل ترعرع بين أسلوب الحياة الغربية والحياة الدينية كمصدر تغذية وإمداد، وتشكل هذا الجيل من هذه الشخصيات، فهل يمكن الحديث عن عقلية كُردية جديدة رافضة لكل هذا الميراث؟
وبمثال آخر بسيط، أكراد الأمس عبروا عن أنفسهم ومجتمعهم بفخر أمام الآخرين بقصائد شعرية، فهل يمكن اليوم قبول شباب أكراد يغنون في الحانات رافعين أيديهم رموزاً "للعقل الكُردي" الحديث؟
والمرأة الكُردية مثل ضيفة خاتون، ست الشام خاتون و میرآنێتە خانم حازت مكانها في التاريخ، أما ذهنية اليوم تجعل المرأة الكُردية جزءاً من حياة وضيعة، فهل هذا يدل على العقل أم عكس ذلك؟
والواقع أن: في الطور الأول من التغريب، صادر الغرب الإمپريالي مكاسب الأكراد.
وفي الطور الثاني من التغريب، سعت الاشتراكية لتأليب الأكراد ضد قيمهم.
وفي الطور الثالث من التغريب، التحالف الليبرالي-الاشتراكي عمل على تجريد الأكراد من قيمهم تماماً، وتحويلهم إلى ميليشيا معادية للقيم.
فهذا ليس عقلانية جديدة، بل إنه سلب للعقول ومشروع تدمير.
والحقيقة، فمع تمركز السياسة في عهد الإسلام حول الحق والحقوق، تمتع الأكراد بنفوذ غير متناسب مع عدد نفوسهم، وأما مع التغريب، فقد تركزت السياسة حول القوة من جديد، فسُلب من الأكراد نفوذهم وحقوقهم وألقي بهم.
وبدون ملاحظة ذلك لن يستطيع الأكراد أن يتجاوزا العقبات والعوائق التي تقيدهم، والاشتراكيون أبعد الناس عن تنظيم تقييم علمي/ معرفي للتاريخ، فلذلك لا يفهمون واقعهم.
وكما فشلوا في استيعاب محيطهم، فسيفشلون في متابعة النظام الدولي، لأنهم مهووسون بإيديولوجياتهم ومكبلون بها، وهي إيديولوجيات عفى عليها الزمن الطويل، ومع ذلك فهم يجتهدون في إحيإٮها بقلق شديد.
ومما سبق نجد أن استعادة الأكراد لمكانتهم واعتبارهم في العالم بعيد على أن يكون هدف للاشتراكيين القوميين. (İLKHA)