انطلقت الندوة العلمية الدولية لـ"تعزيز القواسم الإنسانية المشتركة ومخاطر التصنيف والإقصاء" في مقر وقف إسطنبول للعلوم والثقافة في منطقة الفاتح، والتي نُظمت بالتعاون مع مؤسسة إسطنبول للعلوم والثقافة واتحاد الجامعات الأفريقية الآسيوية، وقد حضرها باحثون وأكاديميون من تركيا وتونس وقطر وعمان والعراق والسودان وروسيا والصومال وجزر المالديف وأستراليا.
وقد ألقى الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين "د.علي القره داغي" كلمة قال فيها:
"إن عالمنا اليوم يتعرض إلى هجمات عنيفة جداً وكلها نحو الإيمان نفسه، وذلك بإحلال الإلحاد مكانه، ويدخل في هذا المجال أيضاً تشويه الإسلام وجعل هذا الدين عِوجاً، كما ورد في القرآن في ست آيات: "يبغونها عوجاً"، "تبغونها عوجاً" فالعالم اليوم لا يريدون الإسلام الذي أنزله الله، إنما يريدون الإسلام الذين يكون معوجاً، وهذا هو أخطر تحدي نواجهه اليوم؛ لأنهم يأسوا أن يقوموا باجتثاث الإسلام، وبالتالي رضوا بتحريف الإسلام وتشويهه بكل الوسائل، فمرة بالعلمانية ومرة بتحريف النصوص ومرة كذلك بالإبراهيمية، ومعهم مع الأسف الشديد بعض العلماء، وهكذا يُراد أن تشوه صورة هذا الدين وأن تشوه حقيقة هذا الدين".
وأشار إلى أن الصهيونية العالمية والماسونية العالمية وأعداء الإسلام يبذلون كل جهودهم في سبيل ذلك، ويجعلون من يفعل ذلك هو أحبُّ إليهم، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: ((وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ، وإذاً)) مفاجأة فوراً ((لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا))، ولكنّ الله سبحانه وتعالى هددّ تهديداً شديداً من خلال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قائلاً: ((وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)) كما طمأن الله سبحانه وتعالى في نفس الآيات المسلمين بأنه لا يمكن أن يتحقق ذلك، فقال: ((وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا، سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا)).
"رسائل النور انعكاسٌ وتجلّ للقرآن"
وتحدث "د.علي القره داغي" عن رسائل النور قائلاً: "إنه من خلال معايشتي لرسائل النور منذ أكثر من أربعين سنة حينما كنت في إسطنبول، وحقّقت رسالة الإنسان والإيمان لبديع الزمان سعيد النورسي مع ترجمة لحياته من جهاده وجهوده، ونشرت ذلك في مصر عام 1980 أدركت سراً عظيماً لمنهج الإمام النورسي، وهو أن بركة رسائل النور تعود إلى القرآن الكريم مصدر الإشعاعات والإضاءات والمعجزات المستمرة إلى يوم القيامة، كما قال الإمام النورسي نفسه، ومن هنا فإنني أتحدث عن تعزيز القواسم الإنسانية المشتركة ومخاطر التصنيف والإقصاء من خلال هذا المنهج النوري أو النورسي نفسه أي من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة التي هي بيان لهذا القرآن، وقد كتبت في هذه المسألة كتابين "نحن والآخر" الذي قدمه الاتحاد العالمي، وكتاب آخر في نفس المعنى "سيدنا يوسف قدوة للمسلمين في غير ديارهم" وتوصلت إلى حوالي اثني عشر مبدأ، وتوصلت بقناعة كاملة إلى أن الإسلام هو الذي أعلن بحق مبادئ التعايش السلمي والسلام العادل الدولي وأعلن حقوق الإنسان وكرامته قبل الأمم المتحدة التي حقيقة هي نفسها لا تقوم على المساواة والعدل؛ لأن إحدى دول الخمس لها الحق أن تنقض قرار 190 دولة من دول الأمم المتحدة كما يشهد بذلك كل السياسيين".
"المبادئ الأساسية التي ينطلق منها الإسلام؛ لتعزيز الروابط الإنسانية المشتركة"
وذكر "د.علي القره داغي" أن منطلق هذه المبادئ أمران أساسيان وهما الرحمة والعدل، فهو رب رحيم ورؤوف وصف نفسه في أكثر من ألف آية، ورسول حُصرت رسالته في الرحمة للعالمين، قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)) إذن فطبيعيٌ حينما يكون المنطلق والمصدر الرحمة أن تكون النتيجة والأثر مجتمع التراحم بين الناس جميعاً، بل بين الإنسان وجميع الكائنات من الحيوانات والبيئة.
ومنطلقٌ آخرٌ أساسي مهمٌ جداً، وهو العدل الذي كما يقول بعض العلماء: "كل مبدأ في المبادئ القانونية والتشريعية في الإسلام قد يكون له استثناء إلا العدل"، فالعدل مطلوب في حالة الضرورة، والعدل مطلوب في حالة الحاجة، والعدل مطلوب في حالة الرفاهية، ففي جميع الحالات العدل ليس له استثناء.
المبدأ الثالث: هو توحيد الله سبحانه وتعالى، بتوحيد كلمته بتوحيد الله في خلقه، وبالتالي حينما تكون أمة موحدة لله لا بد أن تكون متحدة في أعمالها وفي تصرفاتها.
المبدأ الرابع: هو كرامة الإنسان وأصولنا حيث نحن من تراب ثم من سيدنا آدم وحواء، وهذه الأصول تؤدي إلى القرابة البشرية كما نص على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)) قال ابن عباس: الأرحام هنا أرحام الإنسانية فجميع بني البشر هم أقاربنا، وتركيز الإسلام على هذه القرابة لتعزيز الثوابت المشتركة.
المبدأ الخامس مهمّ جداً: وهو صناعة دوائر مشتركة للإنسانية جمعاء، حيث هي ثلاث دوائر مهمة جداً يدور الإنسان المسلم من خلالها، وكل دائرة لها ميزانها حسب فقه الميزان، وأول هذه الدوائر والحلقات هي حلقة الأخوة الإيمانية بالنسبة للمسلمين، وهي أعلى وأفضل وأقوى وأكرم الحلقات، ولها موازينها الخاصة، ثم حلقة أو دائرة أهل الكتاب كما في سورة الروم، ثم دائرة البحث عن الحقيقة وهي الأهم، ودائرة البحث عن الحقيقة تجمعنا مع الملحدين ومع الكفرة ومع الجميع في البحث عن الحقيقة، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في أسلوب راقٍ جداً وهو قوله تعالى: ((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) فهنا في الآية الكريمة لم يقل أنتم يا كفرة، أنتم على باطل ونحن على حق، فهذا الكلام للحبيب المصطفى قل لهم تعالوا نبحث عن الحقيقة قد تكونوا أنتم على حقيقة وحتى نحن ولو كنا مجرمين اجلسوا معنا فهذا حرص شديد، فلذلك هذه الدوائر الثلاث تجمع الإنسانية جمعاء، فاختلاف الأديان في نظر الإسلام أمر طبيعي جداً، وهناك آيات كثيرة في هذا المجال.
المبدأ السادس من المبادئ الأساسية أن كل نفس إنسانية فيها جزء ونفخة من روح الله فلا يجوز الاعتداء عليها إلا بحقها، قال تعالى: ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)) ثم بعد ذلك حينما يصل عمره أربعة أشهر يأتي الملك للكافر والمسلم فينفخ فيه هذه الروح، فهذا الإنسان الذي أنت تستهين به فيه نفخة من روح الله، فكيف تستهين به؟! إلا إذا كان مستحقاً حسب الضوابط، وهذا أمر مهمٌ جداً من الأشياء التي أيضاً ذكرتها.
وختم "د.علي القره داغي" بكلمة مهمة جداً قائلاً: "إن هذه المبادئ لم تكن حبراً على ورق، وإنما كانت تطبيقاً في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن أهم شيء يدل على ذلك هو دستور المدينة أو وثيقة المدينة أو صحيفة المدينة التي تتكون من اثنتين وخمسين مادة، كما يقول حتى جان جاك روسو: "إن أول دستور حقيقة هو الدستور الإسلامي" فكانت تنص سبع وعشرين مادة فيه على حقوق اليهود والوثنيين الذين كانوا يعيشون في المدينة تماماً، وهذه في السنة الأولى من دخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية المشرفة".
كما قال أيضاً: "إن جميع الأديان السابقة كانت الصراعات فيها على أصل الدين فقط، فاليهودية ماذا فعلوا بسيدنا المسيح؟! وكذلك المسيحية في ظل الإمبراطورية الرومانية ماذا فعلوا باليهود وبغيرهم باسم الدين؟! وحينما جاءت الصليبية إلى الأندلس ماذا فعلت بالمسلمين؟! لكنّ الإسلام لم يجعل الصراع دينياً، وإنما جعل الصراع على العدوان على الدين أو على الإنسان ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)) فهنا لم يجعل أسباب الجهاد أننا مسلمون فقط، إنما الظلم وكذلك الإخراج ومنع الحرية، وليست حرية المسلمين فقط وإنما حرية العبادة للمسيحيين واليهود وبقية الأديان؛ لأنه ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع هذه للنصارى وبيعٌ هذه لليهود وصلواتٌ هذه لجميع من يصلي ومساجد هذه للمسلمين حتى أنه قد أخرّها، فهذا هو الدين العظيم الذي يصلح فعلاً أن يكون دستوراً للتعايش في العالم". (İLKHA)