في المقال السابق تحدث فضيلته عن فقه الموازنات ليبين لنا كيف تتم الموازنة بين المسائل ليتضح لنا ما فيه المصلحة والمنفعة، وفي هذه الحلقة من سلسلة أولويات الحركة الإسلامية يتحدث عن فقه الأولويات.
فقه الأولويات:
وأما (فقه الأولويات) فنعني به وضع كل شيء في مرتبته، فلا يؤخر ما حقه التقديم، أو يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغّر الأمر الكبير، ولا يكبّر الأمر الصغير. هذا ما تقضي به قوانين الكون، وما تأمر هب أحكام الشرع. أعني أن خلق الله تعالى وأمره (ألا له الخلق والأمر) كليهما يوجبان رعاية هذا الترتيب.
السيرة النبوية وفقه الأولويات:
في العهد المكي كانت مهمة النبي -صلى الله عليه وسلم- محصورة في الدعوة إلى الله وتربية الجيل المؤمن الذي يحمل هذه الدعوة بعد ذلك إلى العرب، ثم ينطلق بها إلى العالم كله، وكان تركيزه على أصول العقيدة، وترسيخ التوحيد وعبادة الله وحده، ونبذ الشرك واجتناب الطاغوت والتحلي بالفضائل ومكارم الأخلاق، وكان القرآن الكريم في تلك المرحلة يزكي هذا الاتجاه فلم يشغل المسلمون في هذه الآونة بالمسائل الجزئية، ولا بالأحكام الفرعية بل بنيان الإنسان الذي تحدثت سورة العصر: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). لم يشرع للمسلمين أن يحملوا فؤوسهم الأصنام وهم يرونها كل يوم حول الكعبة، ولم يأذن لهم أن يشهروا سيوفهم دفاعاً عن أنفسهم، ومقاومة العدو (وعدوهم، الذي يسومهم العذاب، بل كان يقول لهم ما ذكره القرآن أن (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة) وإن كانوا يأتون إلى رسولهم -صلى الله عليه وسلم- ما بين مشجوج ومجروح.
ارتباط الأولويات بفقه الموازنات:
إن فقه الأولويات مرتبط بفقه الموازنات، وفي بعض المجالات يتداخلان أو يتلازمان، فقد تنتهي الموازنة إلى أولوية معينة، فهنا تدخل في فقه الأولويات.
وجوب مراعاة النسب بين التكاليف الشرعية:
إن الإخلال بالنسب التي وضعها الإسلام للتكاليف الشرعية يحدث ضرراً بليغاً بالدين والحياة. إن العقيدة في الإسلام مقدمة على العمل، لأنها الأساس، والأعمال هي البناء، ولا بقاء بغير أساس وبعد العقيدة تأتي الأعمال وهي متفاوتة تفاوتاً بعيداً، وقد جاء في الحديث الصحيح (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) والقرآن يبيّن لنا أن الأعمال تتفاضل عند الله، وليست في درجة واحدة، يقول تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين. الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولك هم الفائزون) (سورة التوبة: 20).
ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج. بل ذكر فقهاء الحنابلة وغيرهم أن الجهاد أفضل ما يتطوع به من أعمال البدن.
وفي فضل الجهاد جاءت أحاديث كثيرة منها ما رواه أبو هريرة، قال: "مر رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكر ذلك لرسول الله فقال: لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله تعالى أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً" وفي فضل الرباط جاء حديث سلمان مرفوعاً: "رباط يومٍ وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجرى عليه رزقه، وأمن من الفتان" رواه مسلم. وهذا ما جعل إماماً مثل عبد الله بن مبارك وهو في أرض الرباط يكتب إلى صديقه الفضيل بن عياض الزاهد العابد، وهو ينتقل بين الحرمين مكة والمدينة متعبداً: يا عبد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ومن المقرر فقهاً: أن الناقلة لا يجوز تقديمها على الفريضة وأن فرض العين مقدم على فرض الكفاية، وأن فرض الكفاية الذي لم يقم به أحد أو عدد يكفي، مقدم على فرض الكفاية الذي قام به من يكفي ويسد الثغرة، وأن فرض العين المتعلق بالجماعة والأمة مقدم على فرض العين المتعلق بحقوق الأفراد، وأن الواجب المحدد الوقت، والذي جاء وقته بالفعل، مقدم على الواجب الموسع في وقته. ومن المقرر كذلك أن المصالح المقررة شرعاً متفاوتة فيما بينها، فالمصالح الضرورية مقدمة على الحاجيّة والتحسينية، والمصالح الحاجيّة مقدمة على التحسينية والمصالح المتعلقة بمصالح الأمة وحاجاتها أولى بالرعاية من المصالح المتعلقة بالأفراد عند التعارض، وهنا نجد فقه الموازنات يلتقي بفقه الأولويات.
غياب فقه الأولويات عند كثير من المسلمين:
إن آفة كثير من فضائل الصحوة الإسلامية هي غياب فقه الأولويات عنها، فكثيراً ما تهتم بالفروع قبل الأصول، وبالجزئيات قبل الكليات، وبالمختلف فيه قبل المتفق عليه، وتسأل عن دم البعوض، ودم الحسين مهراق، وتثير معركة من أجل ناقلة، وقد ضيع الناس الفرائض، أو من أجل شكل أو هيئة، دون اعتبار للمضمون.
وهذا هو الحال عند عموم المسلمين، أرى الملايين يعتمرون تطوعاً كل عام في رمضان وغيره، ومنهم من يحج للمرة العاشرة أو العشرين, ولو جمع ما ينفقه هؤلاء في هذه النوافل لبلغ آلاف الملايين، ونحن نلهث من عدة سنوات لتجميع ألف مليون دولار للهيئة الخيرية الإسلامية، فلم نحصل على عشر المبلغ ولا نصف عُشره، ولا ثلثه، لو قلت لهؤلاء المتطوعين بالعمرة أو الحج: ادفعوا ما تنفقونه في رحلتكم التطوعية لمقاومة التنصير أو الشيوعية في آسيا وإفريقيا أو المجاعات هنا وهناك، ما استجابوا لك، وهذه آفة قديمة شكا منها أطباء القلوب. وأن من فقه الأولويات أن نعرف أي القضايا أولى بالاهتمام فتعطى من الجهد والوقت أكثر مما يُعطى غيرها.
ومن فقه الأولويات أن يعرف: أي الأعداء أولى بتوجيه قوانا الضاربة إليه، وتركيز الهجوم عليه، وأي المعارك أولى بالبدء، فالناس في نظر الإسلام أنواع: هناك المسلمون، وهناك الكفار، وهناك المنافقون. والمسلمون منهم الجهلة، ومنهم الخونة. والكفار منهم المسالمون، ومنهم المحاربون. ومنهم الذين كفروا فقط، ومنهم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله. والمنافقون منهم ذوو النفاق الأصغر، ومنهم أهل النفاق الأكبر. فبمن نبدأ؟ وأي الجهات أولى بالعمل؟ وأي الأمور أولى بالرعاية؟ ومن فقه الأولويات: أن نعرف واجب الوقت، فنقدمه على غيره ونعطيه حقه، ولا نؤخره فنفوت فرصة قد لا تعوض إلا بعد زمن طويل، وقد لا تعوض يوماً.
والشاعر الراجز بقول:
وانتهز الفرصة إن الفرصة تصير إن لم تنتهزها غصة
ومن حكمنا المأثورة: لا تؤخر عمل اليوم إلى غد.
وقد قيل لعمر بن عبد العزيز يوماً: أخر عمل هذا اليوم، وقم به غداً، فقال لقد أعياني عمل يوم واحد؛ فكيف إذا اجتمع على عمل يومين؟ ومن حكم عطاء: حقوق في الأوقات يمكن قضاؤها، وحقوق لا يمكن قضاؤها إذ ما من وقت يرد إلا ولله فيه حق جديد، وعمل أكيد.
الإمام الغزالي وفقه الأولويات:
وقد أنكر الإمام الغزالي في (الإحياء) على بعض فرق المغرورين بالعبادة دون مراعاة لمراتب الأعمال، فقال: (وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض، نرى أحدهم يفرح بصلاة الضحى، وبصلاة الليل، وأمثال هذه النوافل، ولا يجد للفريضة لذة، ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت، وينسى قوله-صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: (ما تقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم) وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور، بل قد يتعين في الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت، أو فضلان أحدهما يضيق وقته والأخر يتسع وقته فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغرورا.
ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى؛ فإن المعصية ظاهرة والطاعة ظاهرة، وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض، كتقديم الفرائض كلها على النوافل، وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفاية، وتقديم فرض كفاية لا قائم به على ما قام به غيره، وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه، وتقديم ما يفوت على ما لا يفوت، وهذا كما يجب تقديم حاجة الوالدة على حاجة الوالد, إذ سئل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فقيل له: من أبرُ يا رسول الله ؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أمك) قال : ثم من؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أباك)، قال ثم من؟ قال: (أدناك فأدناك) فينبغي أن يبدأ في الصلة بالأقرب، فإن استويا فبالأحوج, فإن استويا فبالأتقى والأورع. وكذلك من لا يفي ماله بنفقة الوالدين والحج، فربما يحج وهو مغرور، بل ينبغي أن يقدم حقهما على الحج، وهذا من تقديم فرض أمم على فرض هو دونه. وكذلك إذا كان على العبد ميعاد، ودخل وقت الجمعة، فالجمعة تفوت والاشتغال بالوفاء بالوعد (حينئذٍ) معصية، وان كان هو طاعة في نفسه. وكذلك قد تصيب ثوبه النجاسة، فيغلظ القول على أبويه وأهله بسبب ذلك، فالنجاسة محذورة، وإيذاؤهما محذور، والحذر من الإيذاء أهم من الحذر من النجاسة.
وأمثلة تقابل المحذورات والطاعات لا تنحصر، ومن ترك الترتيب في جميع ذلك فهو مغرور.
تحقيق إمام ابن القيم في أي العبادات أفضل:
ويذكر المحقق ابن القيم الأقوال في: أي العبادات أفضل: هل الأفضل منها: الأشق؟ أو الأفضل: المتعدية النفع؟
ثم رجح أنه لا يوجد فضل بإطلاق، وإنما لكل وقت عبادة تكون هي الأفضل بالنسبة له. فعند المجاعات يكون إطعام الطعام أفضل ما يتقرب به إلى الله. وعندما يغزو الكفار بلدا مسلما يكون الجهاد أفضل الأعمال، وإمداد المجاهدين بالسلاح والمال من أعظم القربات. وعندما يموت العلماء، ولا يوجد من يخلفهم، يكون طلب العلم والتبحر فيه من أجل ما يؤجر عليه المسلم، ويحمد به عند الله وعند المؤمنين وهكذا يكون التفاضل بين الأعمال.
(منقول بتصرف من كتاب – أولويات الحركة الإسلامية – للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي)
(İLKHA)