إن المجال الأول في رأيي هو مجال الفكر، فهو الأساس للبناء الدعوي والبناء التربوي. الذي يبدو لي أن أزمتنا الأولى أزمة فكرية، هناك خلل واضح في فهم كثيرين للإسلام، وقصور واضح في الوعي بتعاليمه، ومراتبه، وأيها الأهم وأيها المهم، وأيها غير المهم؟ هناك عجز في المعرفة بالحاضر المعيش، والواقع المعاصر.
هناك جهل بالآخرين، نقع فيه بين التهويل والتهوين، مع أن الآخرين يعرفون عنا كل شيء، وقد كشفونا حتى النخاع!
بل هناك جهل بأنفسنا، فنحن إلى اليوم لا نعرف حقيقة مواطن القوة فينا، ولا نقاط الضعف لدينا، وكثيرا ما نضخم الشيء الهيّن، وما نهون الشيء العظيم، سواء في إمكاناتنا، أو في عيوبنا.
وهذا الجهل لا يقتصر على الجماهير المسلمة، بل يشمل الطليعة المرجّوة لنصرة الإسلام، والتي تمثل الركائز التي يقوم عليها العمل الإسلامي المنشود.
حاجتنا إلى فقه جديد
الحق أننا في حاجة إلى فقه جديد، نستحق به أن نكون ممن وصفهم الله بأنهم (قوم يفقهون). فليس مرادنا بالفقه: العلم المعروف الذي اصطلح على تسميته (فقهاً) والذي يعني: معرفة الأحكام الشرعية الجزئية من أدلتها التفصيلية، من مثل أحكام الطهارة والنجاسة والعبادات والمعاملات وأحكام الزواج والطلاق والرضاع وغيرها . . .
فهذا العلم -على أهميته- ليس هو مرادنا بالفقه، وليس هو المراد بكلمة (الفقه) حيث ورد في القرآن والحديث، وإنما هي مما بدّل من الاسامي والمفاهيم، كما بيّن ذلك الإمام الغزالي في كتاب (العلم) من موسوعته المعروفة (إحياء علوم الدين).
إن القرآن ذكر مادة (ف ق هـ) في سوره المكية قبل أن تنزل الأوامر والنواهي التشريعية التفصيلية، وقبل أن تفرض الفرائض، وتحد الحدود، وتفصل الأحكام. إقرأ قوله تعالى في سورة الأنعام، ومكية: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أومن تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض، نظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) (الأنعام: 65) واقرأ في السورة نفسها: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة، فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) (الأنعام: 98). والفقه في الآيتين معناه: المعرفة البصيرة بسنن الله في الأنفس والآفاق وسنن الله في خلقه، وعقوباته لمن انحرف عن صراطه.
واقرأ في سورة الأعراف -وهي مكية- قوله تعالى في ذم قوم جعلهم حطب جهنم فكان من وصفه لهم بأنهم (لهم قلوب لا يفقهون بها) ثم قال عنهم: (أولئك كالأنعام بل هم أضل) واقرأ في أكثر من سورة موقف المشركين من القرآن، وقد عبّر الله عنه بقوله: (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) (الأنعام: 25، والإسراء، 46, والكهف: 57). أما في القرآن المدني فقد تكررت المادة في عدد من السور كلها تنفي (الفقه) عن المشركين والمنافقين. ففي سورة الأنفال يخاطب الله رسوله والمؤمنين بقوله:(إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) (الأنفال: 65).
فنفي الفقه عن المشركين المحاربين هنا، يراد به الفقه في سنن الله في النصر والهزيمة، ومداولة الأيام بين الناس.
وفي سورة التوبة ذم الله المنافقين بقوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون و) (التوبة: 87). فالفقه المنفي هنا هو الفقه في ضرورة الجهاد والبذل لحماية الدين والنفس والعرض، وكيان الجماعة، وأنه مقدم على أية مصلحة فردية عاجلة أخرى.
وفي نفس السورة وصف بهذا الضعف بقوله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض: هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا، صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) (التوبة :127). فقد غاب عن هؤلاء المطموسين أن الله يراهم قبل رؤية الناس، ولكنهم فقدوا الفقه والفهم حقا. وفي سورة الحشر يتحدث عن المنافقين مخاطباً المؤمنين: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) (الحشر: 13).
وفي سورة المنافقون قال تعالى. (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع الله على قلوبهم، فهم لا يفقهون) (المنافقون: 3).
وفي السورة نفسها :( وهم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، ولله خزائن السماوات والأرض، ولكن المنافقين لا يفقهون) (المنافقين: 3).
وفي السورة نفسها: (وهم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، ولله خزائن السماوات والأرض، ولكن المنافقين لا يفقهون) (المنافقين:7).
وبهذا كان لأهل النفاق حصة الأسد من هذا الوصف القرآني بأنهم (لا يفقهون). ذلك لأن المنافقين يتوهمون أنهم أذكياء، وأنهم استطاعوا أن يلعبوا على الحبلين، ويعيشوا بوجهين، وأنهم خادعوا الله والذين آمنوا، فإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم.
ولكن الله تعالى هتك سترهم، وفضح ذبذبتهم، وكشف خداعهم في آيات كثيرة: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) (البقرة: 9).
المهم أنهم فضحوا عند الله وعند الناس، وخسروا الدنيا والآخرة، وحق عليهم أنهم في الدرك الأسفل من النار، فأي غباء أكبر من هذا الغباء؟ ولا ريب أن من كان هذا وصفه ليس عنده شيء من الفقه.
الخلاصة
أن الفقه في لغة القرآن ليس هو الفقه الاصطلاحي، بل هو فقه في آيات الله وفي سننه في الكون والحياة والمجتمع. حتى التفقه في الدين الذي ورد في سورة التوبة (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (التوبة :122).
لا يقصد به الفقه التقليدي: فإن الفقه لا يثمر إنذاراً يترتب عليه حذر أو خشية، بل هو أبعد شيء عن أداء هذه الوظيفة، التي هي وظيفة الدعوة.
ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-" ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين". والمعنى أن ينير الله بصيرته فيتعمق في فهم حقائق الدين وأسراره ومقاصده ولا يقف عند ألفاظه وظواهره.
(منقول بتصرف من كتاب – أولويات الحركة الإسلامية – للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي)
(İLKHA)