الفرق بين الحركة والصحوة أن الحركة تعبّر عن جماعة أو جماعات منظمة، ذات أهداف محددة، ومناهج مرسومة. أما الصحوة فهي تيار عام دافق يشمل الأفراد والجماعات، المنظم وغير المنظم فبينهما - يقول علماء المنطق - عموم وخصوص مطلق، فكل حركة صحوة، وليست كل صحوة حركة، والصحوة إذن أوسع دائرة من الحركة، وأكثر امتدادا، وهكذا ينبغي أن تكون. والصحوة مدد ورافد للحركة وسند لها، والحركة دليل وموجه للصحوة، كل منهما يؤثر ويتأثر بالآخر ويتفاعل معه.
وأود أن أشير هنا إلى أمر مهم، وهو أني أريد بالحركة الإسلامية الحركة بمعناها العام، ولا أقصد حركة معينة، وإن كان أكثر تمثيلي بحركة الإخوان المسلمين، لأنها الحركة التي نشأت فيها، وعشت محنها ومنحها، وخبرت الكثير من أحوالها.
ماهي مَهمة الحركة الإسلامية؟
إن الحركة الإسلامية إنما قامت لتجديد الإسلام والعودة به إلى قيادة الحياة من جديد، بعد إزالة العقبات من الطريق.
و(تجديد الإسلام) ليس تعبيرا من عندي. إنه تعبير نبوي نطق به الحديث الذي رواه أبو داود والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها).
ولقد كان اتجاه أغلب شرّاح هذا الحديث إلى أن كلمة "من" فيه تعني "فردا" واحدا معيناً يقوم بتجديد الدين، وحاولوا بالفعل تعيينه في الغالب من العلماء والأئمة الأعلام ممن تكون وفاته قريبة من رأس قرن مضى، مثل عمر بن عبد العزيز في القرن الأول (ت :105هـ) والشافعي في القرن الثاني (ت :204هـ) ثم اختلفوا كثيراً في مجدد المئة الثالثة وهكذا.
بيد أن بعضهم نظر إلى أن "من" في الحديث تصلح للجمع كما تصلح للفرد، فيجوز أن يكون المجدد جماعة لا واحدا. وهذا ما رجحه ابن الأثير في كتابه «جامع الأصول» والحافظ الذهبي وغيرهما.
وأزيد على هذا أمراً أخر فأقول: ليس من الضروري أن يكون المجدد جماعة بمعنى عدد من الأفراد هم فلان وفلان وفلان… بل جماعة بمعنى مدرسة وحركة فكرية وعملية تقوم بتجديد الدين متضامنة.
وهذا ما أرجحه في فهم هذا الحديث الشريف، وتطبيقه على قرننا هذا الذي ودعناه لنستقبل قرناً جديداً، نسأل الله أن يجعل يومنا فيه خيراً من أمسنا، وغدنا خيراً من يومنا.
بماذا يكون التجديد المنشود؟
والتجديد الذي يجب أن تقوم به الحركة الإسلامية ينبغي أن يتجسد في ثلاثة أمور:
الأول: تكوين طليعة إسلامية، قادرة -بالتكامل والتعاون- على قيادة المجتمع المعاصر بالإسلام، دون تقوقع ولا تحلل، وعلى علاج أدواء المسلمين من صيدلية الإسلام نفسه، طليعة يجمع بين أفرادها الإيمان العميق، والفقه الدقيق، والترابط الوثيق.
والثاني: تكوين رأي عام إسلامي يمثل القاعد ة الجماهيرية العريضة التي تقف وراء الدعاة إلى الإسلام، تحبهم وتساندهم، وتشد أزرهم، بعد أن وعت مجمل أهدافهم، ووثقت بإخلاصهم وقدرتهم، ونفضت عنها غبار التشويش والتشويه للإسلام ورجاله وحركاته.
والثالث: تهيئة مناخ عام عالمي كذلك يتقبل وجود الأمة الإسلامية، حين يفهم حقيقة الرسالة الإسلامية، والحضارة الإسلامية، ويحررها من العقد الخبيثة، التي تركها تعصب القرون الوسطى في أعماق نفسه، ومن الأباطيل التي خلفها الكذب والتشويه في أم رأسه، رأي عام يفسح صدره لظهور القوة الإسلامية بجوار القوى العالمية الأخرى، مدركا أن من حق المسلمين أن يحكموا أنفسهم وفق عقيدتهم، باعتبارهم أغلبية في بلادهم، كما تنادي بذلك مبادئهم الديمقراطية التي يتغنون بها, وأن من حقهم أن يدعوا إلى رسالتهم الإنسانية العالمية، باعتبارها إحدى الإيديولوجيات الكبرى في العالم التي لها ماض وحاضر ومستقبل، ويدين بها ألفا مليون في دنيانا التي نعيش فيها.
أولويات الحركة الإسلامية
تعدد مجالات العمل:
إن مجالات العمل أمام الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، مجالات رحبة فسيحة، وعلى قادة الحركة العمليين، ومنظريها الفكريين، أن يدرسوا هذه المجالات بأناة دراسة علمية قائمة على الإحصاءات والبيانات الموثقة والمؤكدة.
هناك مجال العمل التربوي:
لتكوين (الإطارات) البشرية، والطلائع الإسلامية، وتربية جيل النصر المنشود من الذين يفهمون الإسلام ويؤمنون به كله: علماً وعملاً ودعوة وجهاداً ويحملون دعوة الإسلام إلى أمتهم أولا، وإلى العالم بعد ذلك، بعد أن التزموا به: فكرة واضحة في رؤوسهم، وعقيدة راسخة في قلوبهم، وخلقًا يوجه كل حياتهم، وعبادة مع الله وتعاملاً مع الناس، ومنهاجاً حضارياً ينهض بالأمة، ويوحدها على كلمة الله، ويهدي الإنسانية الحائرة للتي هي أقوم.
وهناك العمل السياسي:
لاستخلاص الحكم من أيدي الضعفاء والخزنة ليوضع في أيدي الأقوياء الأمناء الذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً، والذين إن مكنهم الله في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
وهناك العمل الاجتماعي:
للإسهام في علاج الفقر والجهل والمرض والرذيلة، والوقوف في وجه المؤسسات المشبوهة التي تجعل من العمل الاجتماعي والخيري أداة لتغيير هوية الأمة وارتباطها بعقيدتها.
وهناك العمل الاقتصادي:
للمشاركة في تنمية المجتمع، وتخليصه من التبعية والغرق ني الديون الربويّة والعمل لإيجاد مؤسسات اقتصادية إسلامية.
وهناك العمل الجهادي:
تحرير الأرض الإسلامية، ومقاومة القوى المعادية للدعوة الإسلامية والأمة الإسلامية والمحافظة على حرية الإرادة الإسلامية، واستقلال القرار الإسلامي
وهناك العمل الدعوي والإعلامي:
لنشر الفكرة الإسلامية وشرح تعاليم الإسلام شرحاً يردها إلى وسطيتها وشمولها، وإزاحة الغموض، ورد الشبهات والمفتريات عنها، بالكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية، وبكل الوسائل السمعية والبصرية المعينة.
وهناك العمل الفكري والعلمي:
لتصحيح التصوّر عن الإسلام عند المسلمين وغير المسلمين، وتصحيح المفاهيم المغلوطة والفتاوى القاصرة التي شاعت عند فصائل من الإسلاميين أنفسهم وإيجاد فقه ناضج بصير للحركة الإسلامية، قائم على تأصيل شرعي مستمد من نصوص الشريعة ومقاصدها، وخصوصاً لدى النخبة من المثقفين المسلمين الذين لم يتح لهم أن يعرفوا الإسلام معرفة صحيحة.
توزيع القوى على مجالات العمل:
ورأيي أن هذه المجالات كلها مطلوبة، ولا ينبغي أن يهمل جانب منها، أو يؤجل، وإنما الواجب هو توزيع القوى والكفايات على كل منها، وفق حاجات هذه المجالات من ناحية، ووفق ما عندنا من قدرات من ناحية أخرى.
والقرآن الكريم أنكر على المسلمين في عهد النبوة أن يتوجهوا جميعا إلى ساحة الجهاد- وما أقدسها من ساحة! - مغفلين ساحة أخرى لا تقل قداسة عن الجهاد، وربما زادت عليه في بعض الأحيان، لأنها هي التي تهيئ له وتذكر به وتحذر من إضاعته وهي ساحة التفقه في الدين.
يقول الله تعالى في سورة التوبة وهي السورة التي نددت بالمتخلفين عن الجهاد وأنذرت المتثاقلين بأبلغ النذر (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (سورة التوبة: 22).
فهذه دعوة قوية إلى التخصص، وتوزيع القوى على مجالات الحاجة.
ما ينبغي التركيز والبدء به:
ولكن الذي ينبغي أن تركز عليه الحركة هنا عدة أمور لها أهميتها الخاصة في المرحلة القادمة في ضوء (فقه الأولويات) المشار إليه.
التركيز على مفاهيم معينة يجب تجليتها وتعميمها وتعميقها في المجال الفكري وهو ما أسميناه (الفقه الجديد).
التركيز على شرائح اجتماعية معينة يجب أن تمتد إليها الحركة، وتشملها الصحوة وذلك في المجال الدعوي.
التركيز على مستوى كيفي معين من إعداد القيادات المرجوّة للمستقبل، ولا سيما الإعداد الإيماني والفكري، وذلك في المجال التربوي.
التركيز على تطوير الأفكار والممارسات فيما يتصل بالعلاقات السياسية المحلية والعالمية خروجا من التقوقع الداخلي، والحصار الخارجي، وتحقيقاً لعالمية الحركة ومرونتها، وذلك في المجال السياسي.
(منقول بتصرف من كتاب – أولويات الحركة الإسلامية – للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي)
(İLKHA)