يشهد اليمن انقساما نقديا، وذلك على غرار الانقسام السياسي والعسكري، إذ يوجد بنكان مركزيان أحدهما تديره الحكومة في مدينة عدن، جنوبي البلاد، ويتعامل بأوراق مالية حديثة، قيمة الدولار الأميركي فيها 1760 ريالا، والآخر في العاصمة صنعاء يديره الحوثيون، ويتعامل بأوراق مالية أقدم، قيمة الدولار الأميركي فيها 531 ريالا.
وفي أحدث محطات الصراع، أوقف البنك المركزي في عدن، الخميس الماضي، تعامله مع 6 من أكبر البنوك التجارية التي تعمل في مناطق سيطرة الحوثيين، بعد أن رفضت نقل مقراتها الرئيسية إلى عدن، ليرد البنك المركزي في صنعاء بوقف التعامل مع 12 بنكا تعمل في مناطق نفوذ الحكومة.
ويحظى البنك المركزي في عدن باعتراف المؤسسات المالية الدولية مما يمنحه قدرة التحكم في الوصول إلى الشبكة المالية العالمية "سويفت"، كما يُعد الجهة الوحيدة التي تستطيع عبرها البنوك التجارية المحلية تمويل عمليات الاستيراد من الخارج.
في المقابل، يستمد البنك المركزي في صنعاء قوته من وجود مقرات البنوك الرئيسية في مناطق نفوذه، مما يمنحه قدرة التحكم بالأنشطة المالية والمصرفية داخل اليمن، وفي وقت سابق منع الحوثيون البنوك التجارية المحلية مشاركة بياناتها مع البنك المركزي في عدن.
وقال محافظ البنك المركزي للحكومة أحمد المعبقي، في مؤتمر صحفي، أمس الجمعة: "إن البنوك خضعت لضغوطات جماعة مصنفة إرهابية وفشلت في توفيق أوضاعها خلال المهلة التي مُنحت لها (مدتها شهران) لنقل مقراتها الرئيسية إلى عدن".
وتوعّد المعبقي بإجراءات أقسى ضد الحوثيين، الذين يتهمهم بتدمير وتسييس القطاع المصرفي والمالي، وطبع عملة معدنية جديدة، وتجميد ومصادرة حسابات المواطنين بسبب معارضتهم لسياساتهم القمعية.
لكن رئيس جمعية البنوك في اليمن محمود ناجي قال في تصريحٍ له، إن عبء هذا الصراع سيتحمل تكلفته اليمنيون، حيث سينعكس على ارتفاع لأسعار السلع والخدمات بعد تعطّل عمل البنوك التجارية في تحويل الأموال لشراء واستيراد السلع من الخارج لبلد يستورد حوالي 90% من احتياجات سكانه.
ووفقا لمصرفيين فإن شركة موني جرام للتحويلات المالية أبلغت، الخميس الماضي، البنوك اليمنية ووكلاءها المصرفيين في اليمن، بضرورة إثبات عدم ممانعة من قِبل البنك المركزي في عدن كشرط للاستفادة من عملياتها المصرفية.
وستعقّد هذه الخطوة، التي من المتوقع أن تحذو حذوها بقية الشبكات المالية الدولية، تحويلات المغتربين التي تمثّل أموالهم شريان حياة للملايين في الداخل اليمني، في الوقت الذي تطوّق الأزمة المعيشية عنق الملايين من السكان إثر تراجع حجم المساعدات الدولية.
وسادت حالة من الهلع في الأوساط المصرفية والتجارية في العاصمة صنعاء، ومؤخرا عجزت بعض البنوك عن إرجاع أموال المودعين الذين نظموا وقفات احتجاجية تطالب بصرف أموالهم.
وبررت الحكومة اليمنية قرارها المتعلق بمطالبة البنوك التجارية نقل مقر مراكزها الرئيسية إلى عدن، بأنه قرار يمني سيادي ذو طابع نقدي مصرفي، وقال مجلس القيادة الرئاسي الذي يعد السلطة الأعلى إن القرار يعد تعزيزا لحضور الدولة ومؤسساتها الشرعية، التي تعبّر عن الإرادة الوطنية الحرة.
ووفق مصدر في الحكومة اليمنية، فإن هذه القرارات كانت معدة سلفا كرد على الحوثيين الذين بدؤوا حربا اقتصادية على الحكومة منذ 2020، حين حظرت الجماعة تداول الأوراق النقدية الجديدة التي طبعها البنك المركزي في عدن، والقصف الذي شنته على موانئ تصدير النفط لتحرم الحكومة من ملايين الدولارات بعد توقف عمليات التصدير.
وقال المصدر، الذي فضّل عدم الكشف عن هويته، إن الوقت قد حان للرد.
لكن الحوثيين اتهموا الولايات المتحدة ومن معها، بالوقوف خلف التطورات المصرفية، ووصف زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، في حديث متلفز، مساء الخميس، ذلك بـ"صب الزيت على النار".
وأضاف أن الضغط على البنوك في صنعاء مسعى أميركي لدعم العدو الصهيوني، في إشارة إلى أن هذه القرارات ردة فعل على هجمات جماعته في البحر الأحمر.
ومنذ أواخر 2023، يشن الحوثيون هجمات متكررة على السفن، التي يقولون إنها مرتبطة بإسرائيل، مؤكدين أن عملياتهم تأتي دعما لأهل غزة الذين يتعرضون لحرب صهيونية منذ نحو 8 أشهر أوقعت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى.
وهدد عبد الملك الحوثي بعودة الصراع، وقال: "ما الذي يدفع البعض إلى أن يجنِّدوا أنفسهم وما بأيديهم لخدمة العدو الصهيوني؟ هل يأتي من يريد أن يخسر كل شيء: أمنه، وسلمه؟".
واعتبر العقيد رشاد الوتيري، الضابط بالتوجيه المعنوي في صنعاء، أن إجراءات البنك في عدن تأتي في إطار التصعيد الأميركي البريطاني ضد الحوثيين، للضغط عليهم لوقف هجماتهم البحرية ضد السفن الصهيونية، من خلال خلق أزمة اقتصادية تزيد معاناة اليمنيين.
وتوقع العقيد الوتيري، في حديثه لوسائل إعلام، أن تشعل الحرب الاقتصادية نار الحرب العسكرية مجددا، وقال "قد نشهد حراكا عسكريا في قادم الأيام سيكون هو الأقوى لطرد المحتل الأجنبي وأذنابه المحليين في المحافظات الجنوبية والشرقية من اليمن".
وأكد أن "الموقف الحوثي سيزداد قوةً وتصعيداً على الولايات المتحدة وبريطانيا ومن يدور في فلكهما باليمن وفي المنطقة العربية".
ورغم حالة الصراع والانقسام النقدي الحاصل، كان الملف الاقتصادي قد شهد تفاهمات قادها المبعوث الأممي إلى اليمن بهدف توحيد السياسة النقدية، وإلزام الأطراف بوقف توظيف البنوك في الصراع الجاري، غير أن التطورات الأخيرة قد تعيد الملف إلى المربع الأول.
ويقول محمود ناجي، رئيس جمعية البنوك في اليمن، إن المصارف تعمل في ظروف سيئة جدا بسبب هذا الانقسام ولم تكن يوما طرفا في هذا الصراع السياسي، بل سعت إلى تخفيف الأزمة بعد أن اضطرت للعمل في ظروف سيئة وغير مواتية للعمل المصرفي خلال السنوات الماضية.
ويضيف أن البنوك تقدم خدمة مالية في إطار مهني، ومهمتها الحفاظ على أموال المودعين، ويُفترض بأن تترك لتعمل بحيادية واستقلالية من أجل الشعب اليمني الذي يعيش واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية. (İLKHA)